نظرات شرعية في حالات المقاوم وهو تحت العدوان
ما بين اليسر و الحاجة و العسر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً يوافي نعمه ، و يدفع عنا نقمه .
و الصلاة والسلام على إمام المرسلين نبي الرحمة ، والملحمة إمامنا في الدارين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، و بعد :
إن المقاوم في معيشته ، و حياته الجهادية العصيبة إما أن يكون في حالة يمكن أن نطلق عليها اصطلاحا حالة من اليسر والسعة ، و إما أن يكون في حالة من الضيق ، و الحرج و العسر وربما يكون في كثير من الأحيان في حالة من الضرورة نتيجة للحصار المطبق أو الالتحام المباشر مع العدو.
و كل حالة من هذه الحالات التي يتعرض لها المقاوم في مسيرته الجهادية حدود ، و شروط وضعها و بينها الشارع الحكيم لجلب المنافع ، و دفع المضار ليعيش الإنسان المقاوم ضمن المستطاع ، و مهما كانت الظروف التي يتعرض لها .
أولا – حالة اليسر و السعة :
كثيرا ما يكون المقاوم في حالة من السعة ، و اليسر في حالات عدم الحرب و الالتحام المباشر ، فيباح له أشياء ، و تصرفات كسباً و تناولاً ، و يجب عليه أن يقوم بكل الفروض ، و الواجبات الشرعية من صلاة ، وصيام ، و طعام وشراب . دون أن يستطيع أن يتعدى أحكامها ، و إلا كان ظالما ً لنفسه ، لقوله عز و جل : ( و من يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه )[1]
فالله سبحانه وتعالى أباح للإنسان المجاهد جميع في الحالات العادية جميع أنواع المعاملات الخالية من الأضرار .
كما أباح له – سبحانه - جميع أنواع الحلال و الطيب ما لم يثبت إضراره به ، فيكون تركه لأجل إلحاق الضرر به كالطعام بالنسبة لمن بلغ أقصى حد في الشبع فإنه يضر به ، لأن الشيء إذا بلغ حده انقلب إلى ضده ، لأن الإسراف منهي عنه بقوله تعالى : ( وكلوا و اشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) .[2]
وفي هذه الحالة يطلب من المجاهد أن يقوم بجميع الواجبات العبادية ويحرم عليه جميع المحرمات من مثل لحم الميتة و الخنزير و ما أهل به لغير الله ، و المنخنقة و الموقوذة و المتردية ، و النطيحة و ما ذبح على النصب و نحو ذلك مما حرم تحريما صريحاً واضحاً بأدلة شرعية كشرب الخمر ، وأكل الربا .
قال تعالى : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .[3]
و حذر الشارع الحكيم المكلف ( المقاوم ) من الوقوع في الشبهات التي تقع بين الحلال والحرام ، ولا يقطع بإلحاقها بواحد منهما كالحوم الخيل و البغال و نحوها .
عن شعيب قال سمعت النعمان بن بشير يقول على المنبر و أهوى بإصبعيه إلى أذنيه سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : ( الحلال بين و الحرام بين ، و بينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس . فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا و إن لكل ملك حمى ألا و إن حمى الله محارمه ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب) .[4]
و هذا كله في الحالة العادية التي يقوم عليها تشريع الحلال ، والحرام ، ويطبق فيها التشريع العام لجميع الأحوال و الأشخاص المجاهدين و غيرهم من الأشخاص و أحسن صورة للمحافظة على النفس في موقع التحسين و التزيين .
ثانياً – حالة الحاجة :
و هو أن يكون المقاوم ، و المجاهد في موقع الضيق ، و الحرج والعسر نتيجة عدم وصول المؤن من طعام و شراب و سلاح و زخيرة بشكل كاف نتيجة حصار أو شبه ذلك .
ففي هذه الحالة خفف الله تعالى عن صاحب الضيق و الحرج ببعض الرخص .
و الرخصة هي : ما شرعه الله من الأحكام تخفيفاً في حالات خاصة تقتضي هذا التخفيف [5].
أما العزيمة فهي : ما شرعة الله سبحانه وتعالى أصالة من الأحكام العامة التي لا تختص بحال دون حال ولا بمكلف دون مكلف في الحالة الأولى .[6]
والرخص شرعها الله سبحانه دفعاً للمشقة ودفعاً للحرج ، وذلك على ضربين :
الأول - أحدهما مشقة لا تنفك الواجبات عنها : كمشقة الجهاد في سبيل الله و دفع العدوان عن بلاد و مصالح المسلمين .
فالمكلف الواجب عليه الجهاد و دفع العدوان لا يستطيع دفع الواجب – واجب الجهاد – بحجة المشقة و الخطورة على النفس ، لأن المشاق في الجهاد و دفع العدوان لا أثر فيها في إسقاط واجب الجهاد ، لأنها لو أثرت لفاتت الحكمة من مشروعيتها .
الثاني - مشقة تنفك عنها الواجبات غالباً ، و هي أنواع :
أ-مشقة عظيمة فادحة : يترتب عليها فوات النفس ، أو جزء من أجزائه ، فهذه مشقة موجبة للتخفيف ، والترخيص ، لأن حفظ النفوس لإقامة مصالح الدين أولى من تعريضها للفوات في عبادة ثم تفوت أمثالها .
ب-مشقة خفيفة : كأدنى وجع في أصبع أو صداع و أمثالهما فهذا لا يلتفت إليه ، و يكون موجباً للتخفيف ، لأن تحصيل مصالح العبادة أولى من دفع مثل هذه المشقة و على هذا تكون ملحقة بالضرب الأول الذي لا أثر له في الإسقاط أو التخفيف .[7]
ت-مشقة متوسطة : و هي ما توسط المشقتين الفادحة والخفيفة ، فما دنا من المشقة العظيمة أوجب التخفيف ، و ما دنا من الثانية لم يوجب ذلك ، والله أعلم .
ثالثا – حالة الضرورة : و قد عرف أهل العلم الضرورة بتعاريف متقاربة المعاني ، قال الجصاص عليه رحمة الله – عند كلامه على المخمصة : هي خوف الضرر ، أو الهلاك على النفس ، أو بعض الأعضاء بترك الأكل ).[8]
و بهذا المعنى قال الحنابلة : الضرورة المبيحة هي التي خاف التلف بها إن ترك الأكل [9].
و عرفها الأستاذ مصطفى الزرقا عليه رحمة الله ، بقوله : الضرورة أشد دافعاً من الحاجة . فالضرورة هي ما يترتب على عصيانها خطر كما في الإكراه الملجئ و خشية الهلاك جوعاً )[10].
و هذه التعاريف شبه قاصرة على ضرورة الغذاء ولا تشمل المعنى الكامل للضرورة على أنها مبدأ عام يخول للإنسان الانتقال من حكم أصلي إلى حكم طارئ فعلاً أو تركاً بقصد دفع المخاطر ، و الضرار عن النفس أو الأطراف .
و الضرورة بمعنى أشمل : هي أن تطرأ على الإنسان حالة من الخطر ، أو المشقة الشديدة بحيث حدوث ضرر ، أو أذى بالنفس أو بعضو من الأعضاء . فيتعين أو يباح عندئذ الانتقال من الحالة الأولى و الثانية إلى الحالة الثالثة ، وذلك بفعل ما كان محرماً أو بترك ما كان واجباً أو تأخيره عن وقته دفعاً للضرر عنه في غالب ظنه ضمن قيود الشرع و مبادئه .[11]
فهذا يشمل ضرورة الدفاع عن النفس و القيام بفعل أو الامتناع عنه تحت تأثير ذلك . كما يشمل ترك الواجبات الشرعية المفروضة أو تأخيرها عن وقتها و هذا هو المعنى الأعم للضرورة .
و سبب الضرورة إما أن يكون من نفس الإنسان كالجوع و العطش و حاجة الجسم إلى الدواء و نحوه . وحينئذ لابد أن يكون الضرر حاصلاً أو متوقعاً يلجئ إلى التخلص منه عملاً بقاعدة ارتكاب أخف الضررين الثابتة عقلا و طبعا و شرعا . وأما أن يكون الملجئ من غير نفس الإنسان كإكراه القوي ضعيفاً على ما يضره ، و كحريق قاهر ونحوه [12].
ضوابط الضرورة :
وضع أهل العلم المعتبرين ضوابط لحالة الضرورة التي تبيح للمكلف ( المقاوم – المجاهد ) الانتقال من المشقة إلى اليسر و من الضيق إلى السعة لعل أهم تلك الضوابط ما يلي :
أولا - أن تكون الضرورة قائمة لا منتظرة :
كان يحصل في الواقع خوف الهلاك ، و التلف على النفس والأطراف ومنافعها . فإذا لم يصل المجاهد إلى هذه الدرجة من الظن الغالب لا يجوز له الانتقال إلى حالة الضرورة ، و لم يصح له مخالفة الحكم العام ، والله اعلم .
ثانيا – عدم وجود سبيل آخر للمقاوم المضطر لدفع الضرر إلا بالدخول على حظيرة المحرمات :
كأن يحاصر المجاهد في مكان لا يجد فيه إلا ما يحرم تناوله ، ولم يكن عنده شيء من المباحات أو المشتبهات يدفع به الضرر عن نفسه .
ثالثاً – ألا يخالف المجاهد المضطر مبادئ الشريعة الإسلامية في التدرج في الانتقال من حالة إلى أخرى سلفة الذكر .
رابعاً – عدم تجاوز حد الضرورة :
لأن إباحة الحرام ضرورة تقدر بقدرها ، فالمقاوم المضطر لا يأكل من الميتة إلا بما يسد رمقه ليساعده على الحرب والجهاد .
ومما تقدم نرى أن الإسلام جعل النفس الإنسانية من المصالح الضرورية ، و المجاهد إما أن يكون في دائرة التحسينات ، و الكماليات وهي أرحب الدوائر . و إما أن يكون في دائرة الحاجيات و هي أقل من سابقتها .
و إما أن يكون في دائرة الضرورة ، و هي أضيق الدوائر ، وأكثرها شدة ، و حرجاً ،. و في كل موقع من هذه المواقع الثلاثة قد وضع الله له من القواعد و الأحكام ، و المبادئ ما يجلب له منافعه ، ويدفع عنه المضار كما وضعت القواعد ، و الأحكام و المبادئ للانتقال من حالة إلى حالة بغية دفع الشدة ، و دفع الحرج حتى لا تتعرض حياته أو منافعها للفوات ، و هذا كله من جانب الوجود ، والاستمرار بالنسبة .
قال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . [13]
و الحمد لله رب العالمين .